المحكمة الجنائية الدولية- أمل جديد في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي رغم التحديات

قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة رئيس وزراء إسرائيل، واعتباره مجرم حرب، يمنحنا بصيص أمل في أن تتغلب العدالة يومًا ما على الظلم والجور. الأثر الأهم لهذا القرار يكمن في كسر الحصانة المزعومة التي تمتعت بها إسرائيل منذ نشأتها، وتحويلها إلى كيان متعالٍ على القانون والمساءلة، وليس فقط على حقوق الآخرين وكرامتهم، كما تزعم أساطيرهم المؤسسة.
هذا القرار التاريخي، الذي يشمل أيضًا وزير الدفاع المقال يوآف غالانت، والقائد العسكري في كتائب القسام محمد الضيف (الذي يُعتقد أنه استشهد منذ شهور)، سينضم إلى سجلات التاريخ التي كتبتها ملحمة "طوفان الأقصى"، الانتفاضة المباركة التي أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي حطمت أسطورة الهيبة المزعومة وقوة الردع التي كان يروج لها جيش الاحتلال، والذي ادعى زورًا أنه لا يُقهر.
لكن هذه الخطوة الشجاعة ليست سوى بداية رحلة طويلة وشاقة، كما يقال؛ لأن هناك تحديات جسيمة وكبيرة تنتظرنا في المستقبل القريب والبعيد.
في الواقع، هذا القرار لن يحدث تغييرًا جذريًا في موازين القوى المختلة في الأفق المنظور، ففي الوقت الذي تدير فيه الولايات المتحدة الأمريكية الصراع الراهن بشكل سافر لصالح إسرائيل، تزداد مظاهر الاختلال انحيازًا لصالح الاحتلال، وهو ما يقلل من فرص تحقيق نصر حاسم عسكريًا أو بالضربة القاضية.
مع ذلك، هذا الوضع المثبط لا يمنعنا من إلحاق الخسائر بالعدو وإرهاقه بالعمليات العسكرية التي تسجلها المقاومة في جولات الصراع المتواصلة، وهو ما يتطلب صبرًا وصمودًا وإصرارًا عنيدًا من جانب الفلسطينيين في ساحات القتال وخارجها.
لذا، فإن استمرار المقاومة الباسلة يمد المقاتلين الأبطال بالقوة والعزيمة التي تمكنهم من مواصلة تحقيق الانتصارات في مواجهة العدو الغاشم. والنتيجة الملموسة حتى الآن هي أنه على الرغم من مرور ما يقارب أربعة عشر شهرًا على القتال المرير، وعلى الرغم من الخراب والدمار والتشريد، فإن المقاومة لم تنكسر ولم تنهزم، في المقابل، لم يحقق الاحتلال أي نصر استراتيجي حقيقي.
لا تزال إسرائيل تواصل تدمير القطاع المحاصر وشعبه الصامد، لكنها لم تحقق شيئًا يذكر من الأهداف الإستراتيجية التي أعلنتها في بداية عدوانها، فهي لم تقضِ على حركة حماس، ولم تتمكن من استعادة أسراها المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية.
ظاهر الأمر يشير إلى أن الحرب تقترب من نهايتها، على الأقل في لبنان، حيث تم التوصل إلى اتفاق هش لوقف إطلاق النار لمدة ستين يومًا، وهو ما قد يشكل تطورًا إيجابيًا، ولو بدرجة محدودة.
قد يكون من المفيد أن نتأمل مليًا في الاتفاق الأخير الذي تضمن بنودًا سرية في "ملحق" لم يُعلن عنها رسميًا، وهو ما قد يكون بمثابة نموذج مصغر لبعض التسويات المحتملة بشأن غزة. ولا يمكننا أن نتجاهل الدور المحوري الذي قامت به الولايات المتحدة في هذا المسعى، مع الاعتراف بوجود أطراف أخرى معنية، مثل فرنسا على سبيل المثال.
في هذا السياق، أزعم أن للاتفاق أهدافًا ثلاثًا على الأقل. أولاً، أنه يمنح إسرائيل فرصة سانحة للانفراد بالفلسطينيين في غزة. ثانيًا، أنه يخلصها من "الإزعاج" الذي يسببه لها حزب الله. أما ثالثًا، فهو يمهد الطريق للاستعداد لتصفية الحساب القديم مع إيران، وهو الأمر الذي لا يمانعه الرئيس الأميركي الحالي، بل ويؤيده بشدة دونالد ترامب، الذي من المتوقع أن يخلفه بعد أقل من خمسين يومًا.
من ناحية أخرى، لا يمكننا أن نكون واثقين ومتفائلين بشأن الجوانب الخفية وغير المعلنة في هذا الاتفاق الملغوم. فمضمون الوثيقة الأميركية المرفقة به تضمن بندًا خطيرًا ينص على إمكانية التدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان إذا شعرت إسرائيل بوجود خطر يهدد أراضيها. وقد عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن ذلك بشكل غير مباشر حين قال إن وقف إطلاق النار لا يعني نهاية الحرب، وهو ما يعني بوضوح أن الحرب مستمرة، وأن ما تم التوصل إليه ليس بمثابة نهاية المطاف.
لديّ العديد من الأسباب التي تدعم هذا التحليل. أبرزها أن لبنان ليس على رأس أولويات إسرائيل في الوقت الراهن، فهي منشغلة بشكل أساسي بتوجيه ضربة قاصمة ومؤلمة للفلسطينيين جميعًا، وليس فقط لحركة حماس. ومع ذلك، تواجه إسرائيل ضغوطًا متزايدة من الرئيس الأميركي الحالي، الذي يسعى لإنهاء ولايته الرئاسية بإنجاز ما، ومن الجانب الفرنسي الذي يعتبر نفسه أحد رعاة الوضع السياسي والاقتصادي في لبنان.
الخلاصة التي نصل إليها هي أن احتلال لبنان هو هدف مؤجل، على الأقل من وجهة نظر أحزاب اليمين الإسرائيلي المتطرف، التي تدير الدولة حاليًا، والتي تتبنى الدعوة إلى إقامة "دولة إسرائيل الكبرى" التي تتجاوز حدود دول عربية عديدة. لذلك، فإن الهدف الحالي هو إسكات لبنان وتأديبه، وليس احتلاله بالكامل.
أما الانتقام من الفلسطينيين، فله حسابات أخرى، إذ إن تجربة "طوفان الأقصى" أقنعت الجناح المتشدد في الطبقة السياسية الإسرائيلية، على الأقل، بأن أي وجود فلسطيني يمثل تهديدًا وجوديًا خطيرًا عليها. ولذلك، فإن استقرار إسرائيل وسلامتها مرهون بالتخلص من الفلسطينيين، إن لم يكن عن طريق القتل والتشريد القسري، فعلى الأقل عن طريق إخضاعهم وإذلالهم بحيث لا تقوم لهم قائمة.
إزاء ذلك، فربما يكون من الأدق وصف ما يجري الآن بأنه محاولة جادة لتهدئة إحدى جبهات القتال، مع استمرار حملة الإبادة الجماعية المروعة في غزة والقمع الفاشي في الضفة الغربية المحتلة. وذلك تمهيدًا للدخول في مرحلة أخرى، سيتقرر فيها مصير حرب غزة، التي تنتظر تسوية حاسمة من جانب جميع الأطراف المعنية.
إنها المرحلة التي يواجه فيها الفلسطينيون أصعب امتحان وأقسى تحدٍ في تاريخ الصراع المرير، في ظل القيادة الإسرائيلية الحالية، وذلك لضمان عدم تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول مرة أخرى. ذلك أن ما حدث لم يكن مفاجأة من حركة حماس فحسب، بل كان انتفاضة فلسطينية شاملة وكبرى، تم الإعداد لها وتنفيذها بدرجة عالية من الدقة والنجاح.
مع العلم أن حركة حماس قد تأسست في ثمانينيات القرن الماضي، في حين أن الانتفاضات الفلسطينية تطلقها الحركة الوطنية الفلسطينية منذ ما يقارب قرنًا من الزمان. ومن ثم، يدرك الفلسطينيون تمام الإدراك أن المشكلة ليست في حماس تحديدًا، بل في مبدأ الوجود الفلسطيني على أرضه. وفي المقابل، تمثل حماس رمزية تمثيل الشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه وانتماءاته على أرضه وفي وطنه. وهي في ذلك لا تختلف كثيرًا عن رمزية حزب الوفد، الذي كان يمثل الشعب المصري بمختلف فئاته وطوائفه في مطلع القرن الماضي.
إن الغاية من التهدئة في لبنان لا تتمثل في التمهيد لوقف القتال بشكل كامل، بل المقصود بها هو تصويب مساره لكي يتجه إلى الوجهة "الصحيحة" (من وجهة النظر الإسرائيلية)، والتي من شأنها أن تسمح بتحقيق الهدف النهائي المتمثل في اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه يومًا ما، بما يؤدي في النهاية إلى إعادة "أرض إسرائيل" إلى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم "أصحابها الشرعيين".
صحيح أن هذا الهدف لا يُعلن عنه بهذه الصراحة والوضوح في الوقت الراهن في الخطاب الرسمي الإسرائيلي، ولكن لدينا إشارات واضحة ودلائل قوية تشير إليه، بما في ذلك تصريح الوزير الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا فيه صراحة إلى احتلال قطاع غزة، وتقليص عدد سكانه إلى النصف، بالإضافة إلى تصريحات ترامب حول صغر حجم إسرائيل وحاجتها الماسة إلى التوسع الجغرافي لاستيعاب المزيد من اليهود.
ما ذكرته آنفًا يستوقفنا ويثير اهتمامنا، ولكنه لا يثير قلقنا المفرط؛ لأن التجربة التاريخية علمتنا أنه يمكن تحدي إسرائيل ومواجهتها منفردين، وتشهد على ذلك عملية "طوفان الأقصى" البطولية. مع العلم أن المتغيرات اللاحقة التي حدثت لم تكن ممكنة لولا الدعم الأميركي الهائل الذي انهال على إسرائيل، والجهود الحثيثة التي بذلها "الحلفاء" المقربون والبعيدون.
وعلى الرغم من التفوق الظاهر لصالح إسرائيل في موازين القوى، فإن المقاومة الفلسطينية ظلت صامدة وثابتة القدم ولم تنكسر، بل أصبحت خصمًا عنيدًا لم يتوقف عن الاشتباك والقتال والمقاومة طوال الأشهر الأربعة عشر الماضية. وهو ما يدفعني إلى القول إن ما يقلقني حقًا ليس استمرار القتال، على الرغم من أن الفلسطينيين يقفون في معركة غير متكافئة وخياراتهم تتراوح بين الجهاد في سبيل الله والاستشهاد في سبيل الوطن.
ما يثير قلقي العميق هو الانتقال المحتمل من ساحة القتال إلى طاولة المفاوضات، حيث يشارك فيها أطراف عديدة، ويصبح المقاومون الفلسطينيون الطرف الأضعف والأقل حيلة. وهذا ما يبعث على الحيرة والإحباط، حين ينتقل الاختلال الفادح في ميزان القوى من ميدان القتال إلى طاولة المفاوضات. وفي تلك اللحظة الحرجة، تلعب الضغوط السياسية الهائلة التي تمارس لصالح إسرائيل دورًا مماثلًا لدور الصواريخ الفتاكة والطائرات المسيرة الانقضاضية التي تستهدفهم.
لا أعرف على وجه التحديد الموعد المحتمل لحدوث هذا السيناريو الذي لا أتمناه للتوسعات الإسرائيلية اللاحقة، ولكني أرى مقدماته تلوح في الأفق من خلال التعالي والغطرسة اللذين يبديهما رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يقدم نفسه كما لو أنه سيد منطقة الشرق الأوسط، محققًا انتصارًا ساحقًا يتفاخر به أمام قادة التاريخ مثل جنكيز خان وهرقل. هذا الانتفاخ المفاجئ والمؤقت يستند بشكل أساسي إلى دعم الرئيس الأميركي القادم، بعد استهلاك سلفه، وإلى جانب ذلك، هناك زعماء أوروبيون موالون لإسرائيل لأسباب مختلفة ومتضاربة.
هؤلاء الزعماء يحظون بدعم متزايد من أحزاب يمينية متطرفة، تتنامى قوتها وتزحف بثبات نحو السلطة في العديد من البلدان، وهي معروفة بكراهيتها لنا جميعًا، وليس فقط للفلسطينيين وحدهم. يضاف إلى ذلك، منظمات دولية يتراجع دورها وتتضاءل قدرتها على التأثير.
أما عالم "الأشقاء" العرب والمسلمين، فقد فُرض على غالبيتهم الساحقة أن يقفوا متفرجين مكتوفي الأيدي، في حين انقسمت أنظمتهم بين مؤيد للعدو الإسرائيلي في العلن ومؤيد له في الخفاء، بالإضافة إلى أولئك الذين رفعوا راية النأي بالنفس الزائف.
وإذا أضفنا إلى كل ما سبق استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني المزمن، فإن ذلك يرسم صورة قاتمة توضح مدى الحيرة والارتباك اللذين يواجههما الطرف الفلسطيني المقاوم إذا ما اضطر إلى التفاوض حول إنهاء الصراع.
ذلك أن الصمود الأسطوري الذي أظهره الفلسطينيون حين وقفوا بمفردهم في ساحة المعركة لن يكون كافيًا لإنصافهم وتحقيق مطالبهم العادلة إذا ما دُعوا إلى طاولة المفاوضات، في حين تجلس إسرائيل مدعومة بكل هذه القوى والجهات، لأن الغلبة في هذه الحالة ستكون حتمًا للقوة والنفوذ، وليس للحق والعدالة، إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى شيئًا آخر بمعجزة من عنده.